الأحد، 27 مارس 2016

الفصل الأول : الــــمــــتــــــاهـــــة

الـــلامـــنـــتـــمـــي




الفصل الأول: الـــمـــتـــــاهة




عندما نقول اللامنتمي أي انه لا ينتمي لمكان او زمان، أو حتى عقيدة في عقل الابدان او مشاعر في جوهر الانسان، عندما نقول اللامنتمي أي انه لا يملك مكان معين يكون فيه ولا منزلا يأويه ولا قرية تحميه، ولكن من جهة اخري لابد ان يكون له مكان ينتمي إليه، ذلك المكان هو المكان الصحيح الذي من المفترض أن يكون فيه، ولكن يبقي سؤال لكل شخص تقع عليه هذه المسألة، أين هو ذلك المكان والزمان الذي ينتمي إليه !؟ .


عن نفسي لطالما تساءلت وتعجبت، عن نفسي شعرت دوما إنني لا أنتمي لمكان كهذا أو عالم كهذا أو حياة كهذه، عن نفسي شعرت دوما انني مُجَردْ من شيء في غاية الاهمية ولكن كلما سألت عن ذلك الشيء، أجد نفسي بلا جواب، اصبحت معلقا في هذا العالم وفي هذه الحياة.


اصبحت أهوي مراقبة البشر من بعيد، انظر إليهم كيف يعيشون حياتهم وكيف هم متأقلمون مع عالمهم وديانتهم وافكارهم، أنظر إليهم كيف يستطيعون نفاق بعضهم البعض، كيف يقتلون بعضهم البعض، أنظر إليهم كم يهددون حياتي المستقبلية!  


المشكلة هي عندما اتحدث عن عالم المستقبل لا أدرى كيف يكون مستقبلي، في داخلي اريد شيء، والواقع يفرض عليًّ شيء اخر تماما، فأصبحت اشبه بشخص العالق في المنتصف، فلا يعرف اي منهما أقرب اليه، هل هي العودة الي البداية، او تقدم الي النهاية، الوصف المناسب لهذه الحالة يطلق عليه " الحيرة “.


لقد ولدت في اليوم كذا من الشهر كذا، ولدت ووجدت لقد تم اختيار اسمي وديانتي ومكان عيشي والبلد الذي سأقضي فيه تعاستي، اقصد معاناتي، استمرت حياتي لمدة لا بأس بها، وعندما اقول مدة لا بأس بها اشعر بأنني رجل عجوز يكتب كلماته الاخيرة قبل ان يذهب الي قبره، حسنا لا أعنى هذا الوصف ولكن أعنى عشت حياة تكفي لأن افهم ما حولي من أهوال ومشاكل


في بداية العمر كنت مجرد شخص طائش، مراهقٌ بائس، يتأثر بغيره ويهوى السخافات والهراء، كنت ولا زلت اطلب الكثير، إن اتى لي شخص ما وقال لي " هل أنت انسان متطلب !؟ " سأجيبه فورا " أجل وبكل تأكيد “، لكن في مجتمعنا أخذت كلمة (إنسان متطلب) بنوع من السلبية، أو بالأحرى أصبحت السلبية التي لا نفضل رؤيتها في الاخرين وأصبحنا نقول عنهم " طماعين “، على المجتمع أن يفرق بين التطلب وحب الامتلاك والانانية، فليس كل انسان متطلب يعني انه سلبي!


فالبعض يطلب قصورا وحصون، والبعض الاخر يطلب لقمة عيش!، ان اردت ان اخبركم بمتطلباتي ستكون الامور مثيره للشفقة لهذا لا داعي لأن تظهروا فضولكم اتجاهي، فقد كانت حياتي الطائشة يدفعها الفضول الشديد، كنت ارغب بمعرفة كل شيء، الشخص المدخن كيف يشعر اثناء تدخينه!، والشخص المقاتل كيف يتحمل ألامه، والشخص المحب كيف يشعر اتجاه حبيبته!، كنت احاول ان اعرف كل شيء عن المشاعر والأحاسيس، ولكن المشكلة هي انني نسيت مشاعري ونسيت نفسي وأنتهي بي الأمر الي المعاناة.


اسوء شيء ان تنسي نفسك، ترضي الاخرين ولا ترضي نفسك!، تشجع الاخرين ولا تشجع نفسك!، تهتم لأمر الاخرين ولا تهتم لأمر نفسك!، هذا ما عانيته في بداية حياتي، كل من يضحك لي صديقي، كل من يساعدني ويهتم بي فهو حبيبي، وكل من يقف الي جانبي فهو رفيقي وصاحبي!


يقولون ان الحياة تمتحن فيها اولا و من بعد ذلك تأخذ الدرس ، أجل هذا ما حصل لي ، و كان الدرس مؤلما و مغايرا بطريقة جذرية تماما ! ، في الواقع أشعر ان وصف الدرس قليل اتجاهه ، فما تعلمته هو محاضره و ليس درساً فقط .


كانت حياتي البائسة اجتماعية جدا ، لدرجة انني احب مخالطة الكثيرين و الكثيرين و كان كل ما يهمني هو " أن أحصل على أكبر قدر من الاصدقاء " ، كنت لا أفضل الوحدة ، لا أفضل العزلة ، لا أفضل الكأبة الموحشة ، و لكن في هذه الحياة تعيش اشياء و تجرب اشياء و بالتالي تجد نفسك تحب اشياء لم تحبها من قبل ! ، هكذا هي الحياة ، لا تبتسم للجميع ، أما اذا اردت يا عزيزي القارئ أن تقول لي المثل المشهور " أضحك للحياة تضحك لك " ، فأنا سأقول لك الآتي " أيهما أفضل ، أن يُضحكَ عليك أو أن يُضحك معك !؟ " ، بالتأكيد لا أحد فينا نحن البشر يحب أن يُضحك عليه ، إلا المهرجين في المسارح ، و أحب أن أقول لك ، نحن المهرجين في مسرح الحياة .


وجدت بعد مخالطتي لهذا المجتمع الغريب ، إنه لا أحد يكترث لأمرك أبدا ، و أنا أعنيها " لا أحد " ، لا أحد يهتم لما تحب ، لا أحد يهتم بما ترغب ، لا أحد يهتم لموسيقاك المفضلة ، لا أحد يهتم لأحلامك التافهة ، لا أحد يبالي بأفكارك البائسة ! ، لآنك ببساطة تعيش بين خمسة مليارات من البشر و كل واحد فيهم يسعي الي تحقيق أهدافه و رغباته في الحياة ، فأنت مقارنة بالخمسة مليار ، تعد شيئا تافها للغاية ما لم تملك الوصفة السحرية لكي تقضي على تعاستك في هذه الحياة ...


التعاسة شيء يأتي رغما عن أنفك ، أما السعادة فيقولون عليك ان تشقي لكي تحصل عليها ، و لكن من جهة أخري ما هو مفهوم السعادة !؟ ، السعادة يا عزيزي تختلف من شخص الي أخر ، البعض يجد سعادته في القراءة ، و البعض يجد سعادته في العبادة ، و البعض يجد سعادته في ادخال البهجة للأخرين ، و البعض الاخر يجد سعادته في قتل الارواح و سفك الدماء و جعل الحياة ظلاما لا ينتهي و جحيما لا يطاق ! ، أما سعادتي لا أدري عنها شيئا ، فأنا بالكاد بدأت اعرف نفسي ،  لهذا السعادة تختلف من شخص الي اخر ...


و هذا الاختلاف يضعنا في مفهوم اخر و هو عدم الانسجام ! ، أسبق و نظرت الي البشر من برج عالي في السماء !؟ ، أسبق و تأملت في حياتنا و كم هي مشابهة تماما للنمل !؟ ، أسبق و قلت أنني تائه في حياتي !؟ ، اذا كانت اجابتك " أجل " ، فأهلا و سهلا بك في الــــمـــتـــــاهــــــــــــة ! ..


الحياة يا عزيزي القارئ عبارة عن متاهة ونحن نولد في متاهة ضخمة وكبيرة جدا، ولكن يكمن الاختلاف في موقع ولادتنا في هذه المتاهة، بعضنا ولدَ في بداية المتاهة وتعبَ كثيرا لكي يصل الي المخرج لتخرُج معه روحه في النهاية، وبعضنا ولدَ في مشارف النهاية وبذلك لم يتعب كثيرا حتى تمكن من الخروج منها وأنطلق نحو السعادة الأبدية، وكم أضحك ساخراً على هذا النوع بالذات، لأنهم يظنون بخروجهم هذا قد أصبحوا أحرار، ولكنهم لا يعلمون بأنهم قد دخلوا لمتاهة أخري أشد فتكا من الاولي!


لأن هذه المتاهة تستغل كل شيء ضدك " الحسد، الغل، الكره، البغض، التكبر، الغطرسة، الانانية، واسوأ شيء من بين هؤلاء هو الطمع “، أظنك الأن قد فهمت لماذا أضحك، أتساءل إن كنت ستضحك معي الأن !؟ ...


و هناك نوع مسكين ، نوع يعاني شتي انواع الألم ، نوع للأسف كان من المقدر له أن يولد في منتصف المتاهة ، كان من المقدر له أن يعاني شتي أنواع المعاناة، يكافح طوال الحياة ، فلا يعرف طريق البداية ولا يدري أين النهاية ، فأصبح حائرا و ضائعا و لا يلتقي إلا بالضائعين أمثاله في بحر الهموم ، محاولا أن يجد نورا يرشده الي السرور.


هذا النوع المسكين تجده يوميا يبحث عن أمله الضائع في اسوار المتاهة، فتارة تجده واقفا امام طريقٍ مسدود، وتارة يقع في فخٍ مشؤوم، وتارة يجد حبيبةً تشاركه معاناة القلوب، وإذا بها فجأة تسقط في الكمين المعلوم وهو “الوهم الملعون “، فالوهم أحد الحيل التي تستعملها المتاهة، فلا أحد يفلت منها قطْ، لا أحد!


و لكن من جهة أخري تظن الحياة إنه ليس من العدل ان يولد البشر هكذا و لا يعرفون اين طريقهم ، فهم اشبه بالقطيع ، كل شخص يجول على حسب هواه ، فقررت الحياة أن تظهِرَ شيئا للبشر لربما يستفيدون منه و يجعل منهم شيء ذو معني ، و يحولهم الي أشخاص ذو رؤية و لكن ما أظهرته هذه الحياة فيما بعد كان بالشيء الفظيع و الشنيع و كل شخص كان يقول " يا ليتها لم تظهره ابدا ".


أظهرت الحياة في قلب المتاهة برجاً عالياً كبيراً ضخماً يستطيع رؤيته كل من في المتاهة ، و كان على متن البرج شيئا غير مسار الحياة بأكملها ، كان هناك منظارين و كل منهما يحمل عدسة تختلف عن نظيرتها ، ما الغرض من منظارين ولما لم يكن منظاراً واحداً !؟ ، البعض يرجح القول على أن الحياة دوما تعطيك " حرية الاختيار " و بذلك فيما بعد تقيم عليكَ الحجه و إذا اردت معاتبتها يوماً ستقول لك " لقد كان لديك الخيار وأنت اتخذت القرار " و بهذا لن تستطيع لها رداً .


المنظارين للأسف متضادين تماما ، فالأول يرى النور ، و الأخر يرى الظلام ، بعضهم يرى الحقيقة ، و الأخر يفضل الخديعة ، و بذلك كان المنظارين الذي ينظر منه البشر أكبر فتنةٍ لهم ، مما تسبب لهم الوقوع في حربٍ رهيبة مزقت اوصال بعضهم البعض ، و بهذا نستطيع القول أن هناك منظارين في هذه الحياة ، منظار يجعلك ترى ان العالم يحكمه قوانين و حكومات و دول حاكمه ، و يجعلك ترى ان هناك أمم متحدة ترعي الانسان و حقوقه ، و يجعلك تعتقد أن الأمور لا زالت تحت السيطرة و إن العالم لا يزال بخير!


أما المنظار الثاني ... فهو يجعلك تغوص في عتمة الظلام وتري الحقيقة خلف الستار، وتري الحروب والاغتيالات، الصفقات والاموال، التهريب وتجارة الاعضاء، في الواقع هذا المنظار يعمل علي تكييف عيناك لكي تتمكن من الرؤية في الظلام بشكل معقول، حتى تتمكن على الأقل من رؤية البعبع الاسود القابع هناك، الذي يتحكم في زمام الامور ويأسر الحياة المسكينة، السعيدة الرقيقة، في سجنه المظلم، وصدقني عندما ترى ذلك البعبع، ستعرف حينها إنه ليس بالشخص اللطيف، قد يبتسم لك، ولكن ما قالهُ حكيمٌ ذات يوم هو " ليس كل من يبتسم لك يعني إنه يحبك ".


كم اضحك ساخرا عندما أرى كم هي بارعة ، مخادعة و فاتنة ، هكذا هي حالها دوما ، تغريك في البداية و تجعلك تقع في عشقها و من ثم تنقض عليك و تصبح حينها نهاية حكايتك الصغيرة و التافهة ، و بسبب هذه الفتنة انقلب البشر تماما ، و أصبح هناك عدة أراء و أصبح هناك عدة حكايات و أصبح كل منهم يقول " أنا هو الحق ، أنا هو المصيب " ، أترى معي الأن اين نحن نعيش !؟ ، سيظهر لي شخص ما يقول " ماذا تتوقع أيها الحالم !؟ ، أنت تعيش في هذه الدنيا و الدنيا لا تعطيك كل شيء ! ، لو كنت تعيش في الجنة لن يكون الأمر هكذا أبدا ".


حسنا يا صديقي ، كلا لست صديقي فأنا لن أتخذ اصدقاء ، سأقول لك يا رفيقي في المتاهة ، صحيح إننا في الدنيا و إننا لا نحصل على ما نتمنى ، و لكن ليس لدرجة ألا نحصل على حقوقنا و مستحقاتنا ! ، فإذا أردت أيها الرفيق أن تضع قبعة الخبير و تبدأ في وعض الكثيرين ، فأنت تائهٌ في نفسكَ قبل أن تتوه في المتاهة ، لذلك يا رفيقي سأقول لك و بكل رقة و حنان ، و بكل لطف و سلام و بكل ود و وئام ، " أغــــرب عـــن وجـــهــــي! ". 


فالشيء الوحيد الذي علمتني إياه المتاهة هو لا تثق في أحدٍ أبدا، فالكل يريد الوصول الي المخرج، فما الذي يمنعه عن تخلي عنك !؟، لا أحد سيكترث لأمرك، لا أحد سيهتم لحياتك، فأنت وحدك في المتاهة، أجل أنا وأنت معا في المتاهة! .


و لكن يبدو أن الحياة لا تريد مني أن أبقي وحيدا ، فوجدت رفيقا ، كان مشابها لي تماما ، يقولون إن لكل شخص نظيره في الحياة ، حتي الذرات لها نظير فما بالك بالإنسان !؟ ، هذا الشخص أسميته فيما بعد " نيكولاس " ، المثير في الأمر إن نيكولاس لا أحد يراه غيري ، ولا يتحدث إليه أحد غيري ، و لكن إذا اراد نيكولاس أن يتجسد فبإمكانه أن يُظهر عن نفسه و يُعلن عن وجوده ، عرفت فيما بعد أن نيكولاس عبارة عن شخص تمكن من الظهور بسبب مخيلتي العجيبة و فهمت حينها إنه وجد في حياتي ليكون مستشاري ، على الأقل وجدت شخصا يفهم لغتي التي اتحدث بها في هذه الحياة ، و وجدت الشخص الذي سيستمع إليَّ وقت المعاناة .


من الأن فصاعدا أصبحت انا و نيكولاس نسير معا في المتاهة ، ليس لأنني أثق به ، بل لأنه شخص وهمي و ليس له هدف او وجود ، فبذلك لن اخاف منه عندما اقترب من المخرج ، ولن اتكبد عناء التفكير في إنه قد يخونني ، و أصبح نيكولاس ملازما لي كظلي في كل شيء ، حتي إنه يعلم ما يوجد في السرداب الذي يقبع تحت الأرض .


و الأن لتشعل الشموع لأنني اخيرا وجدت المنزل المظلم الموجود في المتاهة الكبيرة ، و هذا المنزل حسب ما سمعت من الأقاويل إن بداخله سردابا رهيبا ، يحمل اسرارا كثيره ، و حكايات مثيره ، و قصصا طويلة ، يبدو إنني على وشك الدخول الي شيء قد يغير مفهومي نوعا ما ، و هذا ما اسميه " بالبداية المشوقة ".
.
.
.
...........................................................................................................................................................
..........................................................................................................................................................